84 عاما مرت علي وفاة فنان الشعب الخالد
سيد درويش.. إبن النجار الذي قلب موازين الموسيقي العربية في7 سنوات
الموسيقار العبقري لحن80 أغنية لثماني مسرحيات في عام واحد بواقع لحن كل4 أيام
في مثل هذا اليوم(15 سبتمبر) من عام1923 رحل عن دنيانا فجأة الموسيقار العبقري سيد درويش وعمره لا يتجاوز31 عاما قبل يومين من عودة زعيم الأمة سعد زغلول من منفاه, وتضاربت الأقوال حول سبب الوفاة. البعض يقول إنها جرعة زائدة من الكوكايين وكان تعاطيه منتشرا في مصر خلال تلك الفترة, وهناك من تصور أنه أصيب بأزمة قلبية بسبب الجهد الكبير الذي بذله في تحفيظ جموع الشعب نشيد استقبال الزعيم العائد من المنفي. أما أسرته فظنت أنه تعرض لعملية تسمم وطالبت بتشريح الجثة إلا أن السلطات المختصة رفضت ذلك.
علي الرغم من عمره القصير وفترة إنتاجه الفني التي لم تتجاوز7 سنوات فقد تركنا الشيخ سيد درويش بعد أن قلب موازين الموسيقي العربية السائدة في ذلك الوقت رأسا علي عقب, و خلف وراءه تراثا خالدا استحق عنه بجدارة لقب' مجدد الموسيقي العربية'. أما هو فقد اختار لنفسه لقبا آخر هو' خادم الموسيقي'.
كان سيد درويش, خلال فترة تألقه الفني والتي بدأت بانتقاله للقاهرة في عام1917 واستمرت حتي وفاته شلالا موسيقيا طبيعيا متدفقا يخال لمن يقرأ سيرته الذاتية أنه لم يكن يفعل شيئا في حياته إلا التأليف الموسيقي كل يوم وكل ساعة دون توقف. وكان عام1919 هو عام الذروة حيث قام بتلحين80 لحنا مختلفا لثماني مسرحيات غنائية بواقع لحن كل4 أيام, بخلاف ألحان أخري, غير مرتبطة بالمسرحيات قد يكون أنتجها في ذلك العام. ويعتبر هذا العدد من الألحان خلال هذه الفترة أعجوبة في عالم الموسيقي لأن الفنان الحقيقي مطالب بعدم التكرار وبالتالي فقد كان عليه التوصل للحن جديد مختلف عما سبق كل96 ساعة.
حواسه الفنية المرهفة كانت تلتقط ما لا يراه الفنانون الآخرون من مظاهر الحياة العادية ويحوله إلي فن جميل نابع من وجدان الشعب. فإذا شاهد حوارا ساخنا بين جماعة من الأفارقة في مقهي أنتج أغنية' البرابره' مستعينا بالكلمات التي استخدمت في النقاش. وإذا توقفت حركة القطارات بسبب ثورة19 تفاعل مع حاملي الحقائب في محطات السكك الحديدية الذين فقدوا مورد رزقهم بعد اختفاء المسافرين ولحن أغنية' الشيالين'.
سيد درويش لم يكن فنانا تقليديا يساير الركب ويقبل بما استقر في وجدان المعاصرين له بل كان ثائرا علي أساليب التلحين والغناء السائدة وقتئذ, ومجددا ومبتكرا لأساليب جديدة في الغناء العربي أصبحت نموذجا يحتذي لكل من جاء بعده.
قبل سيد درويش كانت' الكلمة' هي الوحدة الأساسية للألحان العربية, وهو ما يعني أن الملحن كان يتعامل لحنيا مع كل كلمة في القصيدة علي حده, ومثال ذلك أغنية صالح عبد الحي' وجهك مشرق' التي يقول مطلعها:
وجهك مشرق بالأنوار يا عيني: وصلك يحييني
فقد تعامل الملحن مع كل كلمة علي حدا وتعمد المط والتطويل ليصبح لحن المطلع هكذا:
واجهااك موووشرق بييييالأنوار يا عييييني أه.... واصلك..واصلك يحييني أه أه أه أه يحيييني أمان أمان أمان.
وجاء سيد درويش ليتعامل مع' الجملة' كوحدة للحن والمثال الواضح أغنية الصنيعيه التي يقول مطلعها:
الحلوة دي قامت تعجن في البدرية.. والديك بيدن كوكوكوكو في الفجريه
وكلنا يتذكر اللحن البسيط السلس لهذه الأغنية الذي ينساب تلقائيا ولا يتوقف عن كل كلمة كما هو الحال في المثال السابق.
وكان المغنون قبل سيد درويش يحرصون علي أداء أغنياتهم بأساليب فنية معقدة يصعب علي العامة تقليدها, فكانت منيرة المهدية علي سبيل المثال تفتخر بقدرتها علي الغناء بطبقات صوتية معينة لا يمكن لباقي الفنانين تقليدها ثم جاء درويش ليقدم فنا راقيا ولكنه بسيط في الوقت نفسه يمكن لرجل الشارع العادي أن يردده بسهوله دون الحاجة لتلقي تعاليم موسيقية خاصة. والأمثلة هنا كثيرة ومنها نشيد' بلادي بلادي' وطقطوقة' يا بلح زغلول' وأغنية الحمالين التي يقول مطلعها:
شد الحزام علي وسطك غيره ما يفيدك..
لابد عن يوم برضه ويعدلها سيدك
أما أكبر إسهامات سيد درويش فكان اختياره لموضوع الأغنيات, فبينما كان أقرانه من الفنانين( ولا يزالون حتي الآن) يتخذون من الحب والوله وهجر الحبيب ووصاله موضوعات لا يحيدون عنها لأغنياتهم نزل سيد درويش في بعض أغانيه للشارع لينقل لنا الحياة اليومية للمصريين بفئاتهم المختلفة فلحن أغنيات تتناول حياة العربجية والموظفين وجرسونات المقاهي وماسحي الأحذية وبائعات اللبن والورود والسقايين وحتي الأيتام أهتم بهم فنان الشعب ولحن لهم أغنية يحض فيها المقتدرين علي الاهتمام بهم يقول مطلعها:
فين يا ناس أهل الشهامة والكرم والإنسانية
لاجل مايواسوا اليتامي ويظهروا النفس الأبية
كوم الدكة قسم العطارين
ولد السيد درويش البحر في التاسعة صباح يوم17 مارس1892 في المنزل رقم112 خلف حارة البوابة الشهيرة بحارة الحاج بدوي بشارع السوق الكائن في حي كوم الدكة قسم العطارين بالإسكندرية. والده هو درويش البحر الذي كان يعمل نجارا ووالدته هي ملوك بنت عيد, أما الداية التي تولت الإشراف علي ميلاده فتدعي فطومة الورداني.
توفي والده ولم يكن عمره قد بلغ السابعة. فنقلته والدته إلي مدرسة أهلية افتتحها شاب من أهل الحي اسمه' حسن أفندي حلاوة' ليتلقي فنان الشعب أول دروس الموسيقي علي يد' سامي أفندي' المدرس بالمدرسة وظل سيد في هذه المدرسة قرابة عامين يحفظ القرآن قبل انتقاله لمدرسة' شمس المدارس' بجهة بحري شارع سيدي الحلوجي ليستكمل دروس الموسيقي علي يد' نجيب أفندي فهمي' وكان ممن يجيدون حفظ ألحان الشيخ سلامة حجازي.
حين بلغ سيد درويش16 عاما تزوج وبدأ عمله الفني بالغناء ضمن فرقة' كامل الأصلي' لصاحبها جورج داخور التي كانت تعمل بجهة كوم الناضورة بقهوة( الياس). وكان الشيخ سيد يقدم حينئذ بعض أغاني الشيخ سلامة حجازي. وبعد حل الفرقة انتقل درويش لمقهي( ابو راضي) في حي' الفراهدة' ولكن وجوده هناك لم يدم طويلا.
في عام1909 وخلال فتره صعبة في حياة الفنان لم يجد خلالها فرصة لكسب عيشه من الغناء, اضطر درويش للعمل مناولا لعمال البناء وتصادف أن كان بجوار العمارة التي يعمل بها مقهي يجلس عليه الأخوان أمين وسليم عطا الله فاستمعا إليه يغني للعمال وأعجبا به واتفقا معه علي السفر للأقطار السورية مع فرقتهما. وخلال الرحلة التي استمرت لعشرة أشهر تعرف درويش علي الفنان عثمان الموصلي وأخذ عنه كثيرا من التواشيح والقدود.
عاد درويش من الرحلة ليعيش في الإسكندرية لمدة عامين تقريبا عمل خلالها بالفن تارة وكاتبا بمحل لتجارة الأثاث كان ملكا لزوج شقيقته تارة أخري بحثا عن لقمة العيش قبل أن يطلب منه الأخوان عطا الله العودة مرة أخري لسوريا في عام1912 في رحلة استمرت هذه المرة عامين كاملين نهل خلالها من فن عثمان الموصلي وعاد وقد اكتملت أدواته الموسيقية. وبعد سنوات من العمل بالفن في الإسكندرية استجاب درويش لنصائح الأصدقاء وانتقل للقاهرة لتبدأ أروع فترات الإبداع في حياته القصيرة.
جليلة' وابور الميه'
جليلة, وشهرتها التي لا نعرف أساسا لها هي جليلة' وابور الميه' هي ملهمة سيد درويش, وكما يقول المتخصصون فإن عددا من أشهر أعمال فنان الشعب العاطفية كانت تؤرخ لمراحل العلاقة بين سيد وجليلة التي تراوحت بين الوصال والهجر. فإذا صفا الجو غني' ياللي قوامك يعجبني', وإذا زادت في الدلال والبعاد أنشد' الحبيب للهجر مال'. وتعد حياة جليلة قبل معرفتها بسيد درويش سرا من الأسرار ولا يعرف عنها إلا القليل. البعض يؤكد أنها سليلة عائلة كبيرة ولكنها تمردت علي حياة الأسر المصرية العريقة وتشبهت بالأجانب, والبعض الآخر يظنها بائعة هوي استولت علي فؤاد الموسيقار العظيم وسلبته لبه وقدمت له الشحنة العاطفية اللازمة لإنتاج أروع الأعمال الفنية.
كانت بداية المعرفة في إحدي حفلات الزفاف التي أحياها الشيخ سيد في عام1914 بالإسكندرية حين استمع الفنان العظيم لضحكة مجلجلة قادمة من مجلس الحريم, وكانت العادة في تلك الفترة أن تجلس النساء في مكان منفصل عن الرجال. أدار الفنان العظيم رأسه ليري صاحبة الضحكة( جليلة) تطل من إحدي الفتحات المطلة علي مجلس الرجال, والتقت نظراتهما, واشتعلت في قلبه شرارة للحب, فما كان منه إلا أن لجأ لعوده ليرتجل علي الفور طقطوقة' خفيف الروح' متأثرا بضحكتها الرنانة.
خفيف الروح بيتعاجب.... برمش العين والحاجب
غمز لي مره بعيونه.... رأيت الحب مضمونه
حرام إن كنت أنا أخونه.. وعشقي له من الواجب.
وكانت جليلة, كما يقول الرواة, امرأة تتمتع بجمال وأنوثة تلفت إليها الأنظار, وكانت تكبر سيد درويش سنا, ولها خبرة في التعامل مع الغزل والغرام, فلم تجد صعوبة في إيقاع سيد في حبائلها. في بداية تعارف الشيخ سيد بها, بدأ أصدقاؤه يتغامزون بحبه لها, فأبدع أغنية يقول مطلعها:
تهموني في حبك تهموني الله يجازيهم ظلموني
وتطورت العلاقة بين سيد درويش وجليلة وبدأت الأخيرة في استخدام أساليب النساء من وصال يعقبه الهجر والبعاد فكان دور' أنا عشقت وشفت كتير غيري عشق, عمري ما شفت المر إلا في هواك' الذي كتب كلماته.
أما لحن' يا ناس أنا مت في حبي' فقصته أن سيد كان قد سأم من المعاملة السيئة لجليلة وانتقل للقاهرة في عام1917? وجاءه صديق يخبره بأن جليلة تسأل عنه فكان جوابه' لو قابلتها مرة ثانية, قل لها سيد درويش مات.' وبالصدفة تقابلت جليلة مع الشيخ سيد لاحقا فقالت له إن أحد أصدقائه أبلغها أنه مات, فكان لحن' يا ناس أنا مت في حبي.. وجم الملايكة يحاسبوني. حدش كده قال؟' الذي كتب كلماته أيضا.
نوادر سيد درويش
.كان الشيخ سيد يركب عربة حنطور صباح يوم مع حوذي لا يعرفه وسمع الحوذي ينادي علي زميل له في الاتجاه المقابل ويدعوه إلي سهرة في بيته الليلة بمناسبة سبوع ابنه فسخر منه زميله قائلا: يعني مسهر الشيخ سيد يا أخي؟!
وتضاحك الزميلان وانصرف كل إلي سبيله, واحتال سيد درويش علي حوذيه حتي عرف عنوان بيته وهو ينوي أن يحي ليلة الطفل ابن العربجي فعلا.
وفي الوقت المناسب كان درويش ينتقل من حارة إلي حارة ومن زقاق إلي زقاق في الحي الشعبي الذي كانت تسكنه طائفة العربجية, حتي وصل إلي بيت فقير عليه' تعاليق' متواضعة, ليندهش الحوذي لأن الأفندي الذي كان يركب عربته في الصباح قد جاء إليه في المساء وهو يحمل عودا وما أن علم الرجل أن هذا الأفندي هو سيد درويش حتي قفز من الفرح علي أكتاف الشيخ سيد يعانقه ويقبله, ثم تركه وراح يصيح في الحارة كالمجنون بأن سيد درويش سيحيي ليلة ابنه. وما هي إلا لحظات حتي تدفق الناس من كل فج عميق أفواجا بعد أفواج وأصبح الحي كله كأنه في عيد. وجلس سيد درويش بين الناس البسطاء يغني لهم ويحفظهم ألحانه حتي بعد مطلع الفجر.
هذه صورة إنسانية حية, تفسر لنا جانبا من شخصية سيد درويش في أسلوب تعامله مع الناس, وتبين لنا كيف كان وفيا في معاشرتهم وفي ارتباطه معهم وبهم في تواضع ومودة لا يشوبها أي تفرقة اجتماعية.
وفي نادرة أخري تظهر معدنه الإنساني الراقي, علم سيد درويش بوفاة والد صديقه بديع خيري, وكان قد تعرف عليه قبل ذلك بخمسة أعوام, فابتاع زهورا وتوجه إلي أقرب كنيسة لدار بديع ووقف ينتظر وصول الجنازة ومضي وقت طويل وسيد ينتظر وحيدا علي باب الكنيسة ولا أثر للمشيعين أو لأقرباء المرحوم.
فتوجه إلي حارس الكنيسة يسأله عن موعد الجنازة فأوضح له الرجل أنه لا توجد جنازات اليوم فهرول سيد درويش والأزهار في يده إلي بيت بديع, ليجد جمعا محتشدا, فسأل أول من قابله عن سبب عدم توجههم للكنيسة ليفاجأ بأن بديع وعائلته من المسلمين.
هكذا كانت روح فنان الشعب صافية نقية لا تفرق بين شخص وآخر بسبب الجنس أو العرق أو الدين أو المكانة الاجتماعية.