أغلي الناس
أنا لاعب كرة قدم سابق, لعبت لصالح عدة أندية ثم اتجهت إلي التحكيم, حتي الدرجة الاولي
, وكنت مدربا لحراس المرمي ومراقبا ومحاضرا بلجنة الحكام الرئيسية لكرة القدم. والدي رحمة الله عليه, كان من اسرة محترمة في احدي القري, وكنت اصغر ابنائه الاربعة, بدأت حياتي كموظف بشركة للنقل, ولاعب كرة في فريق الشركة, ومضت بي الايام حتي التقيتها في مكتب رئيس اللجنة الرياضية بالشركة.. انسانة محترمة في حالها ولا يسمع لها صوت لفتت نظري, وشجعني صديقي المسيحي هاني امين علي التقدم لها وخطبتها, وقال انه يراها مناسبة تماما لي, بينما كنت اري نفسي امامها مجرد فلاح فصيح وموظف بسيط, اتي من منطقة لم تسمع بها بينما هي من سكان القاهرة وكل اخوتها يشغلون مراكز محترمة وقد تطلب لنفسها عريسا افضل مني بكثير.
صرفت النظر عن الفكرة لكن الصدفة جمعتني بها مرة اخري وانا في مأمورية عمل ـ فتجرأت وفاتحتها دون تفكير في الزواج وزيارة بيت اهلها, وفاجأتني بقبول طلبي دون تردد, وبالفعل طلبتها وقرأنا الفاتحة وعقدنا القران في خمسين يوما, وسريعا بدأنا رحلة تجهيز وتأثيث بيت الزوجية, وتزوجنا رغم كل الظروف الصعبة بما في ذلك مرض والدي الشديد, الذي واكب زفافنا ولم يعطله..
بعد زواجي بشهر اختار الموت والدي رحمة الله عليه, فانتقلنا للعيش مع والدتي في بيت العائلة الذي يتردد عليه اخوتي جميعهم ورزقنا الله ببنتين وولد, وقد وسع الحب علينا فكان بيتنا مفتوحا للجميع, حتي في المصايف كنا نسافر مع امي واخوتي وحماي وحماتي دون ادني منغصات او مشاكل وكانت علاقتي بزوجتي مضرب الامثال في الحب والتفاهم.
مرت السنوات وتعرض والد زوجتي لمرض شديد فلم اتركه يوما وحده في محنة مرضه حتي اسلم الروح علي صدري, بينما اكبر ابنائه في السعودية لم يعد الي مصر وقلنا وقتها ان نزوله من بعد الموت لن يقدم او يؤخر.. بعدها تعرضت حماتي المسكينة لآلام السرطان اللعين وعانت طويلا ما بين العلاج الكيماوي والعمليات حتي وفاتها, وفي اثناء مرضها اشتكت زوجتي من ألم في صدرها, لكننا لم ننتبه لخطورة حالتها لانشغالنا بأمها التي كنا نحترمها ونعطيها كل الاولوية خاصة واننا عائلة مترابطة عطوفة توقر الكبير.
مر الوقت وتعرضت انا لمغص شديد دخلت بسببه المستشفي واجريت جراحة لاستخراج حصوة من الحالب وكانت زوجتي ترافقني في المستشفي فانتهزنا الفرصة واجرينا لها بعض التحاليل, وكانت صدمة كبيرة, فقد استشري المرض اللعين في جسد زوجتي حتي طلبت الطبيبة دخولها فورا للعمليات واستئصال صدرها, والغريب اني وجدت نفسي مع زوجتي نزلاء نفس المستشفي في نفس الوقت, هي في الغرفة608 وانا في الغرفة610.
كانت تبكي وكنت اخفف عنها الالم ما استطعت.. تركت كل شيء من اجلها وامضيت ايامي في خدمتها, وحين كانت تخلد للنوم كنت اقوم بتقبيل يدها ورأسها وقدميها.. الله اعلم بي وبأولادي واهلي وكيف عشنا هذه الايام المريرة, حتي جاء وقت الحج, فأخذت قرارا بسفري وسفرها, وسددت المبلغ المطلوب وانهيت الاجراءات, وقلت حتي وان جاء اجل الله فستدفن بالبقيع.. لكن طبيبها حين علم رفض رفضا قاطعا واصر علي عدم سفرها فلم نسافر, وقبلت زوجتي بابتسامة راضية كل شيء, حتي توقف علاجها تماما بعد ان تأكدنا ان الالم اصبح اكبر من العلاج وكل الادوية لم تعد تفيد.. كنت وعدتها اننا سنؤدي الفريضة بإذن الله معا في العام القادم, لكننا لم نفعل, فقد ماتت زوجتي العظيمة.. ماتت اغلي الناس.. ماتت من غبت عنها وحفظتني ومن قالت لي تعالي نحافظ علي موعد صلاة الفجر كما تحافظ علي مواعيد مباريات الكرة.. ماتت التي كانت تسألني( هل انت راض عني؟) ويعلم الله اني عشت معها ومن بعدها وانا راض عنها كل الرضي... يا الله علي الدنيا.
لولا ان البعد عن الطعام والشراب مخالف لرب العزة ويعتبر انتحارا لابتعدت عنهما كما ابتعد الآن عن كل مكان ذهبنا اليه سويا, ولنا فيه ذكري.. ولو ان البكاء يعيدها لي لبكيت عليها عمري كله, اصبحت لا اقوي علي الحياة من شدة حزني وحسرتي.. اصلي واشكو الي الله ضعفي وقلة حيلتي.. انا في اشد الاحتياج لكلمات تنقذني مما انا فيه.
محمد عبد الكريم
>> يالله علي الدنيا... لقد هزتني كلماتك حتي أبكتني
فماذا يبقي من الدنيا اذا ذهب عنها اغلي الناس؟ وقد يهون العمر الا ساعة وقد تهون الارض الا موضعا..
ساعة من الحب الصادق الخالص ومكان لنا فيه اجمل الذكريات, هو كل شئ.. وبعد ذلك علي الارض السلام.. اسعدوا احبائكم واستمتعوا معهم بكل لحظة حب, قبل ان تفقدوهم او تفتقدوهم للابد..
عزيزي الاستاذ عبد الكريم.. جعلتني قصتك أتأمل ملامح زوجتك في صور بطاقتها والشهادات التي ارفقتها بالرسالة ونعيها المنشور بالاهرام, قد تبدو للبعض سيدة مصرية مكافحة عادية من الطبقة المتوسطة, لكن من يتوقع انها بطلة في قصة حب رائعة, كتلك القصة التي ملأت عليك حياتك وقلبك والهمتك تلك الكلمات واخذتك الي كل هذا الحزن والالم والوفاء ؟؟
ان كنت تحب زوجتك حقا فأكمل ما بدأته هي مع أولادك ومعك, واعلم ان مرضك او اضرابك عن الطعام او لا قدر الله موتك كمدا لن ينفعها ولن يرضي روحها النقية, التي تعرفها وتعرفك وترتاح براحتك وهنائك.
كن امتدادا لوجودها الذي زال عن الارض. اعمل وساعد الآخرين وحج وتصدق, وان استطعت اجعل الناس تذكرها بالخير وتدعو لها بالرحمة, وهي تقرأ اسمها الغالي علي مستوصف خيري في قرية او علي سرير مجاني في مستشفي او علي مشروع ماء شرب نظيف في منطقة محرومة من المياه.
علي قدر امكاناتك, اجعل لها بعملك ومجهودك ومالك صدقة جارية, واحسن اليها في وفاتها كما احسنت اليها في حياتها و مرضها..
يقول المثل المصري الشعبي( اللي خلف مامتش) لكن اعتقادي الشخصي ان الذي احب, افلت ايضا من الفناء والنسيان, فهو حي يعيش في القلب الذي يحبه..
حكمة الله ان تكون اقدارنا اقوي منا, وان نغالب احزاننا حتي علي اغلي الناس, كلنا غرقي نلتمس من الله الانقاذ والعون حتي نقدر علي تكملة الطريق والمهمة التي ارادها لنا وكتبها علينا.
تمسك بالايمان, واعلم ان المرء يحشر مع من يحب, وان جامع الناس ليوم لا ريب فيه, كما جمعكما فوق الارض, يجمعكما برحمته و رضاه تحت الارض ويوم العرض وفي اعلي عليين من الجنة, بإذن الله زوجين عاشقين صالحين,( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون).
(سورة البقرة: آية155 ـــ156)