شبهة التمويل الأجنبي!
كم من المخالفات قد ارتكبت في مصر باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان, وبتمويل من جهات خارجية, وكأن مغارة علي بابا قد فتحت أبوابها أمام الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني, فأغدقت الجهات الأجنبية الأموال عليها, بالريال والدولار, حتي إن اتهامات الحصول علي تمويل أجنبي قد تخطت حدود منظمات المجتمع الأهلي إلي بعض رموز القوي الثورية الذين كانوا أعضاء فاعلين في ثورة يناير, ثم انشق بعضهم, وبدأوا في توزيع الاتهامات لزملائهم بالحصول علي تمويل أجنبي لتنفيذ أجندات أجنبية.
وفي حين تري الجمعيات والمنظمات الأهلية المستفيدة أن التمويل ضروري لكي تستطيع ممارسة نشاطها.. إلا أن البعض الآخر يري خطورة استخدامه في تحقيق أهداف معينة لصالح الدولة أو الجهة الممولة, مطالبين في الوقت نفسه بضرورة وجود رقابة صارمة علي التمويل لمنع إساءة استخدامه, وكذلك وضع ميثاق شرف أخلاقي يحدد شروط الحصول علي التمويل, والهدف منه, وأوجه إنفاقه.
يتعجب الدكتور سعد الدين إبراهيم أستاذ علم الاجتماع السياسي فيالجامعة الأمريكية بالقاهرةومديرمركز ابن خلدونللدراسات الإنمائية من تلقي الدولة المصرية تمويلا من الخارج ثم تنكره علي الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني.. فإذا قررت الدولة وقف التمويل عن هذه الجمعيات والمنظمات فعليها أولا أن تتوقف هي عنه, مؤكدا أن التمويل الأجنبي لهذه الكيانات يتم وفق شروط محددة, وكما أن هناك رقابة علي الكيفية التي تنفق بها الدولة هذه الأموال, فمن ثم يجب أن تكون هناك رقابة علي التمويل الذي تتلقاه الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني.
ضوابط صارمة
المهم في قضية التمويل الأجنبي للجمعيات والمنظمات الأهلية أن تكون هناك ضوابط ورقابة صارمة من الجهاز المركز للمحاسبات, ومصلحة الضرائب, والجمعيات العمومية لكل جمعية أهلية, والجهات المانحة, ولابد من وجود قواعد يتم تطبيقها علي الجميع بلا استثناء, وقد كان مركز ابن خلدون أحد هذه الكيانات التي خضعت للمحاكمة3 مرات متتالية, وفي المحاكمتين الأولي والثانية تم الحكم علي و25 من أعضاء المركز, لكن في محكمة النقض أصدرت حكمها ببراءتنا جميعا, ذلك أننا لا نعمل في الخفاء, ونعلن دائما عما نتلقاه من تمويل, وكنا أول من أدخل تعبير الشفافية الذي لم يكن معروفا في مصر قبل إنشاء مركز ابن خلدون, يضاف إليه مبدأ المحاسبة.
وإذا كانت بعض الجمعيات والمنظمات الأهلية تتجاوز في مسألة التمويل, وقد تحدث انحرافات هنا تبدو أهمية الرقابة علي التمويل من الجهات المعنية, وعلي رأسها الجهاز المركزي للمحاسبات, ووزارة التضامن الاجتماعي.. وليس معني خطأ البعض أو مخالفتهم, أن يتم إغلاق الباب نهائيا أمام الجمعيات والمنظمات الأهلية, فالكثير منها قد أوجدت صروحا عظيمة كجامعة القاهرة وغيرها من الصروح الطبية والفنية, لكن حينما بدأت الحكومة في التدخل في عمل الجمعيات الأهلية جمدت حركتها وحركة المجتمع المدني معها, وأصبح الشك ينالها من كل جانب, كما أن التضييق علي الجمعيات يؤدي بلا شك إلي التضييق علي العمل التطوعي.
سألناه: كيف تفسر لجوء بعض الجمعيات لاستخدام التمويل الأجنبي الممنوح لها في العمل السياسي؟
- د. سعد الدين إبراهيم: أنا ضد استخدام المال الخاص في العملية السياسية, ولكن في كل الأحوال, لابد من إعمال قانون الشفافية والمحاسبة, والمراقبة من جميع الجهات المعنية لمنع الانحرافات, مؤكدا أن هناك اتجاها لوقف التمويل الأجنبي, لكن لو حدث, وتم وقفه بالفعل, فلن أعتد به, وإذا حدث وتم تقنينه في مشروع قانون فلن أمتثل له, ويأتي ذلك في إطار حقنا في التمسك بالعصيان المدني, فمن حقك أن ترفض قانونا وتعصاه وتقبل العقاب المترتب علي ذلك.
من الأخطاء الشائعة في الجمعيات والمنظمات الأهلية غياب الديمقراطية الداخلية بها, فذلك يدعو الجمعيات العمومية أو مجلس الإدارة أو مجالس الأمناء للاجتماع لمراقبة سير العمل بها, وأوجه إنفاق التمويل, لكن هناك تقصيرا في دورية الاجتماعات أو ربما عقد اجتماعات صورية, ويتم اتخاذ القرارات بالتمرير, مما يؤدي إلي تراكم الأخطاء, وحدوث التجاوزات المالية, وهنا يأتي دور الجمعيات الرقابية, في الرقابة علي هذه الأموال, ومراجعة أوجه إنفاقها لضمان عدم الانحراف بها عن غير المجالات المخصصة لها, كما أنه من الضروري تدوير القيادات, والا تزيد مدة تولي مجالس الإدارات علي مدتين متعاقبتين لضمان حسن الأداء, وعدم تراكم الأخطاء, وسد منافذ الانحراف.
الرقابة الغائبة
البحث عن التمويل ــ كما يقول النائب السابق والناشط السياسي أبو العز الحريري- أصبح مسألة عبثية في ظل وجود فروع للبنوك الأجنبية في مصر, وكذلك في ظل عمليات تحويل الأموال من الخارج عبر البنوك أو بالهواتف المحمولة, أوالاستيراد بفواتيرمضروبة.. ففي عام2002, كنت قد تقدمت بطلب إحاطة إلي مجلس الشعب حول ما تردد عن قيام السفارة الأمريكية بالقاهرة بمنح نحو مليون دولار لـ5 جمعيات أهلية في مصر, ولم يتحرك أحد, حتي فوجئنا بمساعد وزيرة الخارجية الأمريكية يعترف ايضا بتوزيع هذه المبالغ التي تم الإعلان عنها من قبل السفيرة الامريكية( مليون دولار), مضيفا عليه أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اعتمدت نحو320 مليون دولار سنويا لدعم الديمقراطية في مصر وشمال إفريقيا.. لكن تكمن مشكلة الجمعيات الأهلية في غياب الرقابة الجادة عليها من قبل الأجهزة المعنية, حيث تقوم بعض هذه الجمعيات بـ تستيف الأوراق, وإرسالها إلي الجهاز المركزي للمحاسبات, ولكن لا أحد يدقق, ولا أحد يتابع, ولا أحد يسأل عن الارقام الحقيقية للتمويل ولا أوجه الإنفاق, وكان من نتيجة ذلك أن البعض قد اعتبر التمويل الأجنبي وسيلة للارتزاق, ولذلك يجب مراقبة نشاط هذه الجمعيات بحيث لا تقوم بتزييف الحقائق أو ترويج معلومات خاطئة أو ارقام وتفاصيل مغلوطة تحت ستار حقوق الإنسان.
المال السياسي
ويعد التمويل السياسي أو المال السياسي- والكلام مازال للدكتور عادل عامر أستاذ القانون العام المساعد بكلية الحقوق جامعة طنطا ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية- أكثر خطورة من التمويل الخارجي لمنظمات المجتمع المدني, لأنه إذا سيطر حزب أو جهة معينة علي الانتخابات, وكانت ممولة من جهة خارجية وسيطرت علي مقاليد الحكم فسوف تعمل لصالح الدولة الممولة لها, و في مصر هناك أحزاب سياسية جديدة أصبح لديها مئات المقار فجأة بجميع المحافظات.. ويتساءل: ماهي مصادر تمويلها؟.. فالأصل أن تكون الأنشطة السياسية والقضايا الخاصة بعملية التحول الديمقراطي خالية من أي تمويل أجنبي لضمان عدم انحياز الجهة الممولة لأي ضغوط أجنبية, مشيرا إلي أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية تعد مصادر رئيسية لتمويل منظمات المجتمع المدني, غير أن بعض الدول الأوروبية مثل السويد وفرنسا وألمانيا تفضل أن تمنح التمويل بنفسها.
مجالات الإنفاق
كما يقول د. عادل عامر- إذا علمتم أن نحو600 منظمة مصرية قد تقدمت بطلبات للحصول علي منح مالية أمريكية لدعم المجتمع المدني, كما أن الولايات المتحدة قدمت40 مليون دولار خلال خمسة أشهر لمنظمات المجتمع المدني لدعم الديمقراطية في مصر, بمعدل8 ملايين دولار كل شهر.. أما أبرز الأنشطة التي تنفق عليها المنظمات الحقوقية من التمويل الاجنبي قد تتمثل في مراقبة الانتخابات, وقد ساهمت تقارير هذه المنظمات عن الانتخابات البرلمانية التي جرت في عامي2005 و2010 في صدور حكم من محكمة النقض ببطلان الانتخابات, إلي جانب أنشطة أخري, من بينها إصلاح السجون, ومنع التعذيب, ودعم اللامركزية, وإصلاح المجالس المحلية.
ولا شك, أن التمويل كان له تأثير واضح قبل الثورة, لان جمعيات المجتمع المدني لاسيما الحقوقية ساهمت بدور في توعية المواطنين خاصة الشباب للمطالبة بحقوقهم والاحتجاج, وأصبح لدينا حاليا أكثر من220 ألف شاب وفتاة في مقتبل العمر نظموا وتلقوا تدريبا وتثقيفا يعزز من قيم ما يسمي الليبرالية زاد عدد ما يسمي منظمات حقوق الإنسان في مصر إلي أكثر من110 منظمات حقوقية عام2011 بعضها حصل علي الموافقة والتسجيل في وزارة الشئون الاجتماعية المصرية(75 منظمة) والكثير منها لم يسجل قانونيا.
مصادر التمويل
حيث نجد مصادر تبدو أهلية( كالمساجد والجمعيات الدينية, والكنائس والجمعيات الكنسية في هولندا وإنجلترا وأمريكا وغيرها. كما أن هناك مصادر تمويل شبه حكومية( مثل هيئة المعونة الأمريكيةU.S.Aid) وصناديق تمويل علي صلة بأجهزة امن واستخبارات( فورد فونديشن ومؤسسة فولبرايت وغيرهما) وهناك مؤسسات فكرية علي صلة بأحزاب أوروبية( مثل فردرييش ايبرت ـ فردريش نيومان) وكذا ما يبدو أنها مراكز تدريب متخصصة( هانس زايدل وغيرها).. وبالمقابل, يقف خلف هذه الواجهات التمويلية دول كبري دولية وإقليمية بدءا من الولايات المتحدة وانتهاء بالعديد من الدول العربية وهنا يتساءل د. عادل عامر: لماذا تتحرك هذه المساعدات والأموال من دول الشمال في اتجاه دول الجنوب وليس العكس ؟ والإجابة أن الخلل الهيكلي في دور وحجم القطاع الخيري والعمل الأهلي التطوعي في الولايات المتحدة ودول الغرب الأوروبي مقابل تواضع هذا الدور واختلال معاييره في دول الجنوب يؤدي إلي هذه الظاهرة الضارة. يكفينا أن نعلم ـ علي سبيل المثال وليس الحصر ـ أن عدد الوحدات الخيرية المسجلة في دولة مثل انجلترا وويلز عام2006 قد بلغ190 ألف وحدة( جمعية وكنيسة) ويقدر دخلها السنوي بحوالي80 مليار دولار( أي ما يعادل5% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدولة) أما أصولها وممتلكاتها فتقدر بحوالي140 مليار دولار.
وخلال الفترة الانتقالية التي مرت بها مصر منذ ثورة يناير, وصولا لتولي رئيس جديد, برزت هيئات دولية كبري أخذت علي عاتقها تمويل منظمات المجتمع المدني في تلك الفترة في مجال التوعية السياسية, ومراقبة الانتخابات ودعم الإعلام, بالإضافة للتكريس لظاهرة صحافة المواطن, ودعم المدونين, والنشطاء السياسيين, ومن هذه الهيئات وكالة التنمية الأمريكية بالقاهرة, التي رصدت65 مليون دولار لتمويل هذه الأنشطة والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بالقاهرة ومفوضية الاتحاد الأوروبي الذي رصد8 ملايين يورو.
وإذا كانت هناك تمويلات سرية, فليخبرونا بما هو سري فيها, وإلا كيف عرفوها لو كانت سرية! أما الأمر الثاني فهو أن منظمات المجتمع المدني, التي تتلقي تمويلا من الداخل أو الخارج, فتخضع لأربع جهات رقابية أولاها الجهاز المركزي للمحاسبات, ومصلحة الضرائب, والثالثة هي مجلس إدارة الجمعية, وأخيرا الجهة المانحة نفسها, فالقانون المصري الحالي, الذي ينظم عمل هذه الجمعيات, يفرض قيودا شديدة عليها, مما حدا بالكثيرين إلي التحايل بإنشاء شركات مدنية غير هادفة للربح, وقد تلقي بعضها بالفعل أموالا من الخارج بعيدا عن رقابة الجهات المسئولة في مصر, لكن مقابل هذا يري المعترضون علي التمويل الأجنبي أن تأثيره كان سلبيا إلي حد كبير وأن تأثيره علي البرامج أمر واقع, فالتمويل الأجنبي يأتي مرفقا ببعض الشروط التي قد لا تطرح صراحة, ولكنها تحدد مجالات معينة للعمل, وهي مجالات تتفق وأولويات الجهات المانحة, ولا تتناسب بالضرورة مع احتياجات حركة حقوق الإنسان.
ومن أكثر الأمثلة إثارة للانتباه الأولوية التي يعطيها التمويل للحقوق المدنية والسياسية علي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, والتركيز علي قضايا الحريات الدينية وحقوق الأقليات في تناغم مع اهتمام قطاعات من المنظمات الغربية لحقوق الإنسان والمراكز البحثية المهتمة بشئون مجتمعات الشرق الأوسط.