اليابان.. وترويض أشباح الماضي
سيدة مسنة تحمل لافتتين أحدهما تطالب بالعدالة و الانصاف لفتيات المتعة و الاخري ترفض تعديل الدستور الس
منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية نجحت اليابان في أن تصبح نموذجا اقتصاديا وتكنولوجيا رائدا يسعي الجميع للاحتذاء به واقتفاء أثاره .
ولا يخلو الحديث عنه من الانبهار والحسد, وخلال مشوارها الطويل الصعب علي هذا المضمار استطاعت الحكومات اليابانية المتلاحقة التغلب علي كثير من الصعاب والعراقيل التي صنف بعضها في خانة المستحيل, غير أنها عجزت حتي يومنا هذا في الخروج من نفق المصالحة مع التاريخ المظلم.
فالدولة اليابانية اعترفت في تسعينيات القرن الماضي, بعد طول عناء وعناد ورفض, بما وقعت فيه الإمبراطورية اليابانية من أخطاء بحق البلدان الأسيوية التي احتلها الجيش الامبراطوري في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين, وهي خطوة رغم أهميتها لم تحظ بالقبول الكامل من الجيران الأسيويين, لأنها كانت في نظرهم مبتورة وينقصها الإقرار بحقائق ووقائع اجمع عليها المؤرخون الذين تناولوا بالبحث والدراسة ما ارتكبه الجنود اليابانيون من فظائع وجرائم. ويبدو أن اليابان علي موعد مع محاولة جديدة لترويض أشباح الماضي المؤرقة لها ولا تكف عن إزعاجها ومطاردتها علي يد رئيس الوزراء شينزو آبي, الذي تولي السلطة في ديسمبر المنصرم, ويحاول حاليا إحداث تغييرات جذرية في ثوابت ومفاهيم النهج السلمي الذي تسير عليه بلاده منذ عقود مضت, وهو ما أثار فزع وتحفز الدول الآسيوية ومعها الولايات المتحدة.
فآبي المعروف بنزعته وتوجهه اليميني المتشدد بدأ في الأسابيع الفائتة حملة مكثفة ترمي لبرهنة أن طوكيو لم تكن مخطئة, وأنه لا يوجد ما تخجل منه تاريخيا, وبدا من تصريحاته ومواقفه أن اليابان كانت تقود حربا في الثلاثينيات والأربعينيات نبيلة الغرض لتخليص الآسيويين من الاستعمار الغربي وليس استعمارها واستنزاف مواردها الطبيعية.
واستهل آبي حملته بتساؤل عما إذا كانت بلاده معتدية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية قائلا: إن كلمة المعتدي لها تفسيرات عدة. وتجاهل رئيس الوزراء الياباني أن طوكيو أصدرت بيانا شهيرا في1995 اعتذرت فيه للدول الآسيوية عما لاقته وعانته أبان الاحتلال الياباني لها, واستخدم البيان وصف الاعتداء, فالاجتهاد هنا لا محل له. ثم انتقل لقضية بالغة الحساسية, خصوصا للجارة القريبة كوريا الجنوبية والصين, وتخص ما اصطلح علي تسميته بفتيات المتعة اللائي اجبرن علي الترفيه عن جنود الجيش الامبراطوري وقت الحرب, ويقدر بعض المؤرخين عددهن بنحو200 ألف, ولا يزال60 منهن احياء في كوريا الجنوبية.
فقد شكك آبي في جزئية إجبارهن, مفترضا أنهن فعلن ذلك بمحض اختيارهن, وسار علي نفس المنوال عمدة أوساكا تورو هاشيموتو, الذي يعد لرئاسة الوزراء, وفي المعية نسي آبي أن اليابان اعتذرت لهن في1993, وهو اعتراف مباشر بالخطأ, كما انه لم يعترض علي زيارة وزراء حكومته لمعبد ياسوكوني المخصص للصلاة علي أرواح مليوني جندي ياباني قتلوا في معارك جرت منذ نهاية القرن التاسع عشر, ومن بينهم15 عسكريا أدينوا بارتكاب جرائم حرب.
أما الجانب الأخطر الذي عمل عليه آبي فكان الإفصاح عن رغبته في تعديل الدستور السلمي المكتوب بمعرفة قوات الاحتلال الأمريكية عقب الحرب العالمية الثانية بحيث يكون يابانيا خالصا. وعلي وجه التحديد فإنه يود استعادة وضع الإمبراطور كرأس للدولة وليس كرمز فقط حسبما ينص الدستور الحالي, وتعديل المادة التاسعة المتعلقة بنبذ الحرب للأبد, وتفرض محاذير علي الساموراي الياباني في المشاركة في عمليات الدفاع الجماعية, وامتلاك أنواع معينة من الأسلحة الهجومية ـ ميزانية الدفاع اليابانية50 مليار دولار ـ.
وفي المجمل فإن الشواهد تظهر أن آبي ـ شغل رئاسة الوزراء سابقا2006 ـ2007 ـ يستغل نجاحاته الاقتصادية علي مدي الأشهر الستة الماضية, وإنعاش الأمل في نفوس اليابانيين الذين ضجوا من دورانهم لعقدين في دائرة الركود الاقتصادي, لتسويق أفكاره في تغيير صورة اليابان المسالمة. بالإضافة إلي أنه يخطب ود الجماعات اليمينية, وهي كتلة تصويته مهمة ومؤثرة مع اقتراب الانتخابات العامة الصيف الحالي, لكنه في حركته لا يقدر أن غالبية الشعب الياباني لا تشاركه توجهه.
ففي استطلاع للرأي لصحيفة أساهي شيمبون أيد70 % سياسات آبي الاقتصادية والمالية, في حين وافق5% فقط علي سياسته الخارجية. إن صالح اليابان أن تظل قوة محفزة للسلم والتعاون من أجل استقرار آسيا والعالم, واستيعاب أن سعيها لترويض أشباح الماضي لن تثمر سوي العلقم.