هي فوضي .. فيلم واللا علم !
خطورة المعارك التي اثيرت حول فيلم يوسف شاهين الجديد 'هي فوضي' تكمن في صرف الانظار عن حقائق العمل كفيلم سينمائي الي جوانب لا تعني المشاهد كثيرا ولا يمكن مشاهدة الفيلم علي أساسها، ولعل الاسئلة العبثية حول شجاعة المخرج وشجاعة الرقابة، ومدي مساهمة خالد يوسف في اخراج العمل، والنسبة التي حذفها خالد من مشاهد هالة صدقي.. كل هذه الاسئلة تبقي خارج اطار حقيقة الفيلم، والذي ينتمي الي مجموعة قليلة جدا من الاعمال في تاريخ السينما يمكن أن نطلق عليها 'سينما التحريض والمواجهة'.. ليبقي السؤال الاهم: هل الفيلم 'ممتع حقا'؟ وهل نجح في 'تصوير' ما اراد 'تصويره'؟ وهل حقق معادلة شحن وجدان المشاهد للمواجهة أم اكتفي بالتظاهر علي الشاشة والصراخ بالنيابة عن المشاهد ليعود بعدها قرير العين الي بيته وينام؟!
وحكايات كواليس يوسف شاهين في كل أفلامه لا تنتهي وهي مادة للحديث وللاستهلاك الصحفي وغالبا ما تدفع قارئها للدهشة أو الاعجاب فالرجل مبدع سينمائي ومبدع علي المستوي الانساني أيضا وهو الاكثر شبابا وحيوية بين فريق العمل في كل أفلامه، لكن هذه الحكايات تبقي محدودة بلحظة عرض الفيلم، وان كانت قد اثرت بلاشك كما يظهر علي الشاشة، لكن في لحظة العرض تنتهي الاسباب، ويبقي الفيلم فقط.
ومن البداية وعلي مستوي 'نظام العمل' لدي شاهين ثمة تغييرات بعضها جذري في 'هي فوضي' فمنذ سنوات طويلة لم يكتب ليوسف شاهين سوي يوسف شاهين نفسه أو مع خالد يوسف في السنوات الاخيرة أو أحد مساعديه قبلها، لكن هذا الفيلم وبالتحديد السيناريو يحمل توقيع ناصر عبدالرحمن الذي كتب 'المدينة' ليسري نصر الله ثم اختفي لسنوات، وها هو يعود مع 'هي فوضي' لشاهين و'جنينة الاسماك' ليسري وأيضا 'حين ميسرة' لخالد يوسف، ويبدو ناصر وكأنه اقتحم وجدان شاهين وتلاميذه.
والتغيير الثاني الظاهر في 'هي فوضي' هو وجود اسم خالد يوسف كمخرج مشارك مع استاذه الذي اشتهر بجملته الشهيرة في فيلم 'حدوتة مصرية' حين سأل مساعده 'الديمقراطية ايه يابني' فرد عليه 'اللي تقوله يا أستاذ' ويبدو أن الديكتاتور الفنان قد اضطر الي الاقتناع بمفهوم جديد للديمقراطية فاستعان بخالد يوسف التلميذ المخلص لما تعلمه، لكنه يحمل ملامح أخري ليست شبيهة باستاذه في أعماله.
اما التغيير الثالث والاهم هنا، هو العثور علي لغة مشتركة بين شاهين ورجل الشارع العادي جدا، فيوسف شاهين خريج فيكتوريا كوليج وابن الطبقة المتوسطة العليا، والذي حمل همومها علي مدي خمسين عاما أو أكثر، اكتشف أخيرا عوالم ناصر عبدالرحمن، وانجرف اليها وها هو يتواصل معها، فاذا بها تلتفت اليه بعد كل هذا العمر السينمائي.. انها الجماهيرية بعد أوانها بوقت طويل ولكن هل تغير شاهين ام تغيرت اختياراته وبقي بنفس آليات تفكيره؟!
احلام تافهة
يجيب عن هذا السؤال أمين الشرطة المهووس جنسيا ب 'منة شلبي' والهيستيري المعذب والفاسد اذ يشبه في تكوينه النفسي 'العاجز' من الداخل 'قناوي' بطل باب الحديد الذي قدمه شاهين نفسه والفارق هنا ان احدهما 'المصري موديل الخمسينيات' والثاني 'المصري موديل 2007'.
يقول خالد صالح:
بالفعل يستحضر 'حاتم' في 'هي فوضي' نموذج 'قناوي' في باب الحديد، ويمثلان معا ذلك الشخص المصاب بعاهة، واذا كان قناوي مصابا في قدمه فان عاهة 'حاتم' في قلبه، فالشخصان عاشقان لكن عشق حاتم تحول الي مرض في قلبه الي عذاب متواصل.. تحول معه الي شخص في منطقة خاصة به من العالم بينما الآخرون يعيشون في العالم الحقيقي، ولحظات وجوده في بيته المظلم دائما كانت تعبر عن ذلك.. فالعالم منور في الخارج، وهو كالخفاش.. تخنقه أحلامه التافهة والصغيرة للغاية نتيجة لظروف نشأته القاسية.. كل هذا كان يجب أن يغلف الوحش الكاسر.. فهو ظالم ومظلوم قاهر ومتهور.. لم يكن يعنيني في التمثيل ان اظهر آلة الفساد والتعذيب الشرير داخل حاتم، كان يعنيني ان يصل الانسان العاشق والشرير.. وأن يشعر المشاهد بعذابات تحوله.. فقد كان هذا الشخص يوما 'طفلا' بريئا.. 'وعملوا له سبوع' مثل كل الاطفال.
في 'هي فوضي' شاهدنا خالد صالح 'شرير حقيقي' لكن مختلف عن أدواره السابقة هل السر هو شاهين؟
نعم .. والهدف من عملي مع شاهين هي تلك المساحة الجديدة التي استطاع ان يخرج مني فيها هذا التمثيل.. هذا الادراك.. وهذا هو الهدف من كل مخرج اعمل معه.. واذا كان خالد صالح الممثل قد اختلف فالفضل يعود لشاهين وأيضا لادارة خالد يوسف.. ومن البداية يرجع للسيناريو الذي يعد الابداع الاساسي فقد فرض علينا ناصر عبدالرحمن تحديا كبيرا بالنسيج القوي والعميق في الفيلم لتحوله الي شخوص من لحم ودم.. والحقيقة انا احترمه واحييه.
حوارالنبلاء بين التلميذ والأستاذ
خالد يوسف: قضيتنا 'الفوضي' وليست 'الشرطة' !
'هي فوضي' ليس الفيلم الأول لخالد يوسف بالتأكيد، لكن الاكثر حميمية وتعبيرا عن حالة سينمائية وانسانية نادرة وهي تجلي واضح لسنوات من التعلم والصداقة والابوة لذلك يبقي خالد هو القاسم المشترك في كل ما أثير حول الفيلم بالسلب أو الايجاب.. وتبقي حقيقة أكدها أحد أهم صناع الفيلم 'لولا لم يكن خالد يوسف ما كان هي فوضي'. ولهذه الاسباب فان اكثر الاسئلة حساسية لا اجابات لها سوي ما يقوله، وهو كان أكثر وضوحا من توقعنا.
ينتهي فيلم 'هي فوضي' بانتحار أمين الشرطة الفاسد بعد أن يكشف الجميع حقيقته ويتم القبض عليه فيما يحاصر الجمهور قسم الشرطة، وفي خلفية الشاشة تظهر سيارات الامن المركزي وقد نزل منها الجنود ليحاصروا الجمهور، وبينما يؤكد اداء صناع الفيلم انه ثوري فان النهاية توحي بحل كل المشكلات.. لذلك كان السؤال:
ألا تعتقد أن المشهد الاخير يجعل من الفيلم 'كبسولة' لتسكين آلام الجمهور.. وينهي العمل بزواج الحبيبين مثل الافلام العربية القديمة؟
لا.. المشهد لم يتوقف عند انتحار الفاسد، بل امتد لحصار المتظاهرين، وبالتالي فان الازمة قائمة وعلي الجمهور ان يفكر في حل لها.. ف 'حاتم' أخذ الجزاء الذي يستحقه، لكن يبقي الشعب محاصرا.
ليس من حق أحد أن يناقش اختياراتك الفنية، لكن اذا كانت الرصاصة التي اطلقها حاتم علي نفسه قد صورت (Close up) ألم يكن من المفروض أن يصور الحصار (Close UP) أيضا؟
اعتقد ان الحصار واضح تماما، ثم ان القضية في الفيلم أكبر من ممارسات أمين شرطة فاسد أو مريض، القضية هي الفوضي.. في التعليم، وفي المشاعر.. الفوضي بكل جوانبها سواء في علاقة الناس ببعضهم أو علاقة الناس بالسلطة.. والتحذير من أن هذه الفوضي لو استمرت فلن تبقي علي أحد سواء من السلطة أو من الشعب، سوف نضيع كلنا.
انت بما تقوله تحذف علامة الاستفهام بعد جملة 'هي فوضي' لتصبح تقرير واقع بدلا من التساؤل فلما اظهرت الافيشات وفيها علامات الاستفهام؟
الحقيقة علامة الاستفهام قرار رقابي، وقد وضعتها فعلا ليس رضوخا للرقابة ولكن لقناعتي أن الثقافة المصرية تحتمل طرح الجملة بأكثر من صيغة، فهي تقال أحيانا بشكل استنكاري أو للتأكيد علي التحكم في كل الامور أو باعتبارها سؤال يحتاج الي اجابة، وبالتالي وجدتها تؤدي نفس الغرض.
أثناء مشاهدة العرض وجدنا تشويشا مزعجا أدي الي اخفاء بعض الجمل من الحوار علي لسان الممثلين.. كما وجدنا مساحات من السواد تصل الي عشرة ثواني أو أكثر.. لماذا؟
قطعت يد كل من امتدت يده علي 'كادر' ليوسف شاهين، لكن ما اريد قوله هو ان كل ما تم حذفه من الفيلم لا يؤثر عليه، وأؤكد انه لوطلب مني حذف مشهد أو جملة تؤثر علي الفيلم لم اكن لأوافق تحت أي ضغط مهما كان، لكن ما حذف من الفيلم غير مؤثر علي الاطلاق، صحيح أن أي كادر من الفيلم له أهميته، لكن ما اصرت الرقابة علي حذفه فعلا أدي الي تغيير شكلي فقط لا يقدم ولا يؤخر.
لماذا اذن كان الحذف.. هل تملك تفسيرا؟
اعتقد انه ليس لديهم سبب، انه الافراط في الحساسية وهم يرون أن هناك علاقة خاصة بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، وأن هذا المشهد يمكن أن يثير حساسية فيها، وحين وجدت لديهم منطقا قلت لا مانع.
لماذا اللون الاسود مكان المشهد المحذوف؟
هذا قراري لان أي كادر تم حذفه من الفيلم يجب أن يعلم الجميع أن الرقابة هي التي تدخلت لحذفه، ولانه أيضا لو تم الوصل سيكون لدينا ما يسمي ب (Junp cut) وفي هذه الحالة فان ما يقال هو أن المخرج جاهل أو المونتير جاهل. والغريب ان الفيلم سيعرض علي الجماهير العربية كلها بعد شهرين علي الفضائيات وبدون أي حذف.. والسؤال هو: علي من يتم هذا التغييب؟ ثم انني لا افهم من الاصل ما هو منطق وجود الرقابة في هذا العصر؟ وأزعم ان علي أبوشادي رئيس الادارة المركزية للرقابة يشاركني الرأي فنحن في عصر السماوات المفتوحة وفي الماضي كان هناك شباك واحد للسينما، وشباك آخر هو القناة الاولي والثانية.. لكن ما يحدث الآن لا يسمح لأي سلطة بالمنع.. ببساطة هو أمر بلا منطق، فهناك عشرون قناة عريبة ومائتا قناة عالمية ستعرض الفيلم.. وبالتالي لا توجد أي نتيجة للرقابة سوي تشويه سمعة السلطة والبلد والتأكيد علي انها تراقب الابداع والمبدعين، والحقيقة الوحيدة التي يجب أن يراها هؤلاء أن الفيلم يعبر عن رأي صناعه فاذا كان سيئا فالامر يعود عليهم، واذا كان متجاوزا فسوف يحاكم الجمهور هؤلاء الصناع.. ونحن نقول اننا بلد ديمقراطي.. واذا كانت الصحافة تستطيع أن تهاجم الجميع وتبدي رأيها في كل الشخصيات العامة بلا تمييز.. لماذا تتم مراقبة السينما ويحذف منها.. نحن مبدعون ولسنا سياسيين وبالتالي لايصبح منعنا من النزول للشارع لاننا لسنا حزبا معارضا.. نحن لنا رؤية نقولها فيتفق معها الناس أو يختلفون.. هم أصحاب السلطة علينا بتجاوبهم أو عدم تجاوبهم معنا.